إن الإنسان ابن بيئته وظروفه ونتاج أوضاع تدور وتجري حوله، إنه محصلة كل ما يحيط به وينتمي إليه ويؤمن به؛ فكل الذين ساهموا بشكل أو بآخر، في الإعدامات والتصفيات من جهة، والذين فقدوا حياتهم من أجل التغيير، في هذا الاتجاه أو ذاك، كلهم كانوا نتاج ظرفية تاريخية وصفها البعض بـ « دكتاتورية مقدسة » والبعض الآخر بـ « سنفونية الاستبداد »، فكيف كانت تتم الإعدامات في عهد الملك الراحل الحسن الثاني؟ وهل كل الإعدامات نفذت آنذاك تحت مظلة القانون أم أن هناك حالات طالت مغاربة وأجانب على هامش القانون وبفعل دوافع مزاجية على امتداد العهد السابق؟
ونحن نعد هذا الملف استحضرنا كل شهداء الشعب المغربي الأبرار، وباستحضارهم بدت لنا صورة الجلادين، لاسيما أولئك الذين لازالوا يظهرون في الصورة في هذا المجال أو ذاك أو ينعمون بحظوة في هذا الميدان أو ذاك.
استحضرنا الشهداء بدءا بحرب الريف ووصولا « إلى شهداء » معتقل تازمامارت هؤلاء الذين قضوا رغما عنهم، وأولئك الذين أعدموا في المعتقلات السرية المعروفة منها والتي لم تعرف بعد حتى الآن، وفي مخافر الشرطة والدرك الملكي، وكل الذين اغتيلوا أو أعدموا في ظلمة الليل أو داخل ثكنة وراء الشمس.
على سبيل التقديم
خلال مسار تاريخ المغرب الحديث تجلت بعض المحطات: 1959، 1963، مارس1965، 1971، 1972، 1973، عاين فيها المغاربة لحظات عصيبة لازالت شاخصة في الذاكرة الجمعية، تألق فيها رجال، سلبا أو إيجابا، كانوا أوفياء لفكرة آمنوا بها، خاطروا أو ضحوا في سبيلها إلى حد أنهم فقدوا حياتهم من أجلها، في ظل القانون الجاري به العمل أو على هامشه في غياهب سجون ومعتقلات سرية، والقاسم المشترك لديهم، سواء اتفقنا معهم أم لم نتفق، اعتقادهم أن البلاد خلال تلك الفترات لم تكن تحتاج سوى شرارة لانفجار الأوضاع، وبالتالي بلوغ المراد، وهو تغيير واقع الحال، في هذا الاتجاه أو ذاك.
مئات المغاربة أعدموا على امتداد العهد السابق، منهم من لقي حتفه بعلم المغاربة، ومنهم من تمت تصفيته في الخفاء في ظروف لا يعلم تفاصيلها وحيثياتها إلا الجلادون والآمرون بتنفيذ الإعدام في إطار القانون.
وقد حان الوقت ليعرف جيل اليوم حصيلة أكثر من أربعة عقود في هذا المجال، حتى يكونوا حريصين على ألا تتكرر المأساة، لاسيما وأنه بدأت تبرز بشائر شعور كأن التاريخ بصدد إعادة نفسه في المغرب، وهذا اعتبارا لجملة من الانزلاقات قد لا تكون معالمها اتضحت بعد بما فيه الكفاية، لكنها لازالت تتوالى.
واعتبارا على أن بلدنا اجتاز أكثر من أربعة عقود، أغلب سنواتها كانت رهيبة، بفعل الكروالفر بين النظام وحلفائه من جهة وبين دعاة التغيير من جهة أخرى، فمن الواجب المزيد من الحرص واليقظة حتى لا يتكرر ما حدث بأشكال أخرى، خصوصا وأن الأوضاع الاجتماعية شبيهة بأوضاع الأمس، كلاها مر المعاش، إذ استفحل الفقر اليوم أكثر من الأمس وزادت الأوضاع ترديا، وهي ذات الأوضاع التي أدت إلى بروز تازمامارت ودرب مولاي الشريف وغيرهما من الأماكن السيئة الذكر.
لازال هناك الكثير من الأشخاص الذين أعدموا خارج القانون وعلى هامشه غير معروفين إلى حد الآن، أغلبهم أعدموا على يد الجنرال محمد أوفقير وبعده على يد الجنرال أحمد الدليمي، وألقي بجثثهم على شاطئ الدار البيضاء، وكان هذا في 1964 و1967، وتلت هذه المرحلة فترة السبعينيات التي كثرت فيها الإعدامات المنفذة في ظل القانون وعلى هامشه، ومن المعلوم أن تنفيذ هذه العقوبة لا يتم إلا بإذن مباشر من الملك، وكل الإعدامات خضعت لهذا الإجراء في عهد الملك الحسن الثاني، فكيف تمت أشهر الإعدامات في العهد السابق؟
« إعدامات » النقطة الثابتة رقم 3
النقطة الثابتة رقم 3، هو الاسم الرائج بين عناصر الأجهزة الأمنية بخصوص « دار المقري »، وهو الفضاء الذي أرادت الفعاليات الحقوقية تنظيم وقفة أمامه فكان المنع هو المآل.
في واقع الأمر إن التعاطي مع إشكالية النقطة الثابتة رقم 3ـ أكد بما فيه الكفاية وزيادة أن النظام لا يرغب في الذهاب إلى حد مواجهة جرائم عهد « الدكتاتورية المقدسة » وجها لوجه والإقرار بحدوثها، هي كحقيقة بسيطة لم تعد تخفى على المغاربة قاطبة، إذ أن هذه المواجهة ستكشف ضلوع شخصيات وازنة مازالت تصول وتجول في المناصب السامية ودوائر صناعة القرار.
إن وجود النقطة الثابتة رقم 3 وفضائها التحت أرضي الرهيب مازال إلى حد الآن يشير إلى أنه لا مخرج إلا بالتعرف على الجلادين حتى يعرفهم الخاص والعام، ما دام أن المغرب لم يختر بَعْدُ سبيل المساءلة والمحاسبة.
ويتأكد هذا المطلب في نظر البعض، باعتبار أن هناك جملة من الممارسات وطرق التعاطي مع العديد من الإشكاليات، تفيد أن لا شيء تغير في أكثر من مجال رغم حلول العهد الجديد، وحسب هؤلاء يبدو أن بلادنا مازالت لم تستعد بعد لاعتماد الديمقراطية الحقة وقبول تحمل انعكاساتها السلبية على النظام القائم، وهذا ما يساهم بشكل كبير في النيل من الثقة التي تأسست مع حلول العهد الجديد، وذلك جراء الشعور بأن التاريخ يعيد نفسه، ومن تم الإحساس بأن الغد سيكون أسوأ من اليوم كما كان سائدا في العهد السابق.
وتظل النقطة الثابتة رقم 3 من الأماكن التي شكلت فضاءا للإعدامات خارج القانون وعلى هامشه ناهيك عن التصفيات الجسدية حسب المزاج، ولازال القائمون على الأمور، إلى حد الآن، لاسيما رجال العهد السابق، حريصين على إبعاد هذا الفضاء الرهيب من المشهد العام وعن اهتمام كل من سولت له نفسه النبش فيما جرى من إعدامات وتصفيات هناك، إذ أنه المكان الذي تحتضن أقبيته جملة من المختفين بعد مقابر شهداء « الكوميرة » وتازمامارت، وأقل ما يمكن قوله بهذا الخصوص، وحسب شهادات كل الفعاليات الحقوقية ذات مصداقية، أن النقطة الثابتة رقم 3 كانت فضاءا لإعدامات على هامش القانون في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
لازال التعتيم قائما حول هذا المكان الرهيب رغم أن الملك محمد السادس صرح في غضون شهر يناير 2006 أن المغرب على درب تصفية تركة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بحكمة وبصفة عادلة، والآن وبعد أن أقر الجميع بحدوث تجاوزات فظيعة، مازال هذا الفضاء يحتفظ بأسراره الرهيبة، ولازال الشعب المغربي لم يعرف بالضبط من أعدم هناك؟ وكم عدد الجثث التي تحتضنها أرضه؟
وفي هذا الصدد قال قائل، إن التعاطي مع إشكالية هذا الفضاء الرهيب من طرف الدولة، هو بمثابة إقبار جذور الشر، ومن المعلوم أنه كلما أقبرت جذور من التراب، عوض اجتثاثها، نمت من جديد وبقوة أكثر هذه المرة.
إن النقطة الثابتة رقم 3 فضاء استضاف الكثير من المختطفين، وهو ذات المكان الذي شوهد فيه، حسب الناجين من نيرانه، جملة من المختطفين الواردة أسماؤهم في لائحة مجهولي المصير إلى حد الآن، فهل أعدم هؤلاء هناك، بالنقطة الثابتة رقم 3. حسب أكثر من شهادة لشهود عيان تسير في هذا الاتجاه، لاسيما الإخوان بوريكات والطبيب الخاص للملك الراحل محمد الخامس، الدكتور فرانسوا كليري.
ويبدو أن مختلف المعطيات المتوفرة إلى حد الآن، بخصوص محمد عبابو وحروش عقا ومحمد شلاط وأحمد مزيرك، يفيد تقاطعها أن هؤلاء أعدموا بفضاء النقطة الثابتة رقم 3 بعد اختطافهم من السجن المركزي ثم نقلهم مع العسكريين إلى تازمامارت وعودتهم صحبة حميدو العنيكري والكولونيل فضول من هناك. وغالب الظن أنهم أعدموا مباشرة بعد أن تمكنوا من الفرار وألقي القبض عليهم في 1975.
علما أن الكولونيل محمد عبابو هو أخ اليوتنان كولونيل امحمد عبابو مدير المدرسة العسكرية لأهرمومو والعقل المدبر لانقلاب الصخيرات سنة 1971، والذي اعتقل في 14 يوليوز 1971 وأدين بعشرين سنة سجنا نافذا من طرف المحكمة العسكرية بالقنيطرة ثم بعد ذلك بالمؤبد ولا سبيران أحمد مريزك المحكوم بعشر سنوات.
فهل تم كذلك إعدام المناضل النقابي وعضو حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحسين المانوزي؟ إنه سؤال مازال قائما ولم تفك الدولة رموزه إلى حد الآن.
وتصب الشهادات في نفس الاتجاه بالنسبة للفرنسيين الذين ساهموا في اختطاف واغتيال المهدي بن بركة بمدينة باريس الفرنسية المحكومين بالمؤبد بفرنسا سنة 1967، والذين استضافهم المغرب في العهد السابق وأكرمهم وسمح لهم بالقيام بأنشطة مشبوهة كانت تذر عليهم وعلى الأجهزة الأمنية والمخابراتية أموالا وسخة، إذ تقر تلك الشهادات بأن بيير دوباي وجوليان لوني وجورج بوسشيش اعتقلوا بعد تصفية الجنرال محمد أوفقير؛ في البداية احتجزوا بضيعة في ملك الجنرال أحمد الدليمي كائنة بالفوارات بضواحي القنيطرة ثم نقلوا إلى النقطة الثابتة رقم 3 وهناك لقوا حتفهم.
ويبدو أن الجنرالين عبد الحق القادري وحسني بنسليمان يعلمان الكثير بهذا الخصوص، فهل سيتكلم أحدهما قبل لقاء الرفيق الأعلى أم أن السر سيذهب معهما؟
موت الجنرال أوفقير « إعدام » أخذ شكل انتحار
الجنرال محمد أوفقير الذي كان يلج القصر الملكي كما يدخل إحدى غرف منزله، غادره جثة هامدة في أحد أيام غشت 1972 محمولا، بعد أن تلقى جسمه 5 رصاصات قاتلة.
لقد قيل إن الجنرال محمد أوفقير انتحر مساء يوم فشل الانقلاب الثاني (الهجوم على الطائرة الملكية).. لكنه انتحر بخمس رصاصات أطلقت من الخلف. وبعد مرور أربعة أشهر عن هذا « الانتحار » الغريب، اختفت عائلة أوفقير ولم يعد يظهر لها أثر.
رغم ترديد رواية الانتحار بكثرة من طرف القائمين على الأمور، لم يصدقها أحد. وبعد الحادثة بمدة قصيرة، نشرت إحدى الجرائد البلجيكية خبرا مفاده أن فاطمة شنا، أرملة الجنرال، تعتزم تقديم دعوة ضد الملك الحسن الثاني بخصوص موت بعلها، كما أشارت نفس الجريدة في مقال لها أن الجنرال تلقى رصاصة اخترقت رأسه وخرجت من إحدى عينيه فكسرت زجاجة النظارات السوداء التي دأب على ارتدائها باستمرار، وأضاف المقال أن زوجته ستقدم بدلته وبقايا نظاراتيه المكسورة لتفنيد أطروحة الانتحار.
إعدام العسكريين
اتضح نهج الملك الراحل الحسن الثاني في الحكم مبكرا، وتجلى ذلك منذ سنة 1963، ثم في 1965 مع القمع الشرس الذي ووجه به التلاميذ والطلبة وأولياء أمورهم، بالإضافة إلى عملية اختطاف المهدي بن بركة. وقد شكلت سنة 1971 المفترق الذي كشف عن سخط وغضب بعض العسكريين الذين خططوا للانقلاب بسرعة عفوية غير معهودة لدى القادة العسكريين، وبالرغم من إعدام جنرالات ومحاكمة المتهمين بالمشاركة في انقلاب الصخيرات، تلاه انقلاب آخر في صيف 1972 (الهجوم على الطائرة الملكية) يوم 16 غشت 1972.
عشية فشل الانقلاب الأول تم اعتقال الجنرالات المشكوك في أمر مشاركتهم فيه، إذ كلهم خضعوا لاستنطاق أشرف عليه الجنرال محمد أوفقير شخصيا، هو الذي لم يدق طعم النوم ليلتين متتاليتين، وفي اليوم الثالث رافق الجنرالات إلى ثكنة مولاي إسماعيل بالرباط لإعداد تنفيذ إعدامهم بدون محاكمة.
وهناك من إحدى المكاتب تابع الملك الحسن الثاني وضيفه الملك حسين مشهد الإعدام بالمنظار.
تابعا معا المشهد من أوله إلى آخره.. إذ تم تجريد الضباط السامين من النياشين وربطهم بالأعمدة واستعداد فرقة الرماة لإطلاق النار.. ظلا معا يتابعان المشهد بالمنظار إلى حين سقوط المعدومين الذين هتف بعضهم إما بحياة الملك أو بحياة الوطن. كما عاين الملكان جثث المعدومين على الأرض والجنود الحاضرون يقتربون منها للبصق عليها.
وفي لحظة فقد المغرب 9 جنرالات من أصل 14 أغلبهم من الأمازيغ، وقد تابع المغاربة مراسيم إعدام الجنرالات على شاشة التلفزة مباشرة، كما حضرت جماهير غفيرة إلى ثكنة مولاي إسماعيل لمعاينة هذا الحدث، وكانت الحصيلة إعدام 4 جنرالات، بوكرين وحبيبي وحمو ومصطفى و4 كولونيلات والكومندار إبراهيم المانوزي، وكل هؤلاء لم تكن تربطهم أية علاقة بالسياسة، ولم يكن لديهم أي وازع ديمقراطي، بل أغلبهم ساهم في قمع المقاومة بجبال الريف منذ 1925 وقمع التحركات النضالية في مختلف أرجاء المملكة.
أما الانقلاب الثاني (16 غشت 1972)، فكانت حصيلته إعدام 11 ضابطا في يناير 1973 رميا بالرصاص و 30 ضابطا وضابط صف بواسطة « الإعدام بالموت البطيء بجحيم تازمامارت« .
وعن القرائن التي تشير بجلاء أن إعدامات الانقلابين ظلت موصومة بأنها إعدامات خارج القانون وعلى هامشه، كون الملك الحسن الثاني قام بإعفاء الضباط الثلاث المستشارين في هيئة المحكمة العسكرية بالقنيطرة التي حاكمت الانقلابيين باعتبار أن الأحكام التي نطقت بها لم ترق الملك، ولم تكن قاسية بالقدر الذي كان ينتظره، لقد أحيلوا على التقاعد دون سابق إنذار، وتلافيا لتكرار هذه الحالة، تم تعيين الجنرال أحمد الدليمي ضمن هيئة القضاة التي نظرت في قضية الهجوم على الطائرة الملكية في صيف 1972، وبذلك كان خصما وحكما في ذات الوقت، إذ اقتصر دوره فقط على الضغط على زناد السلاح الذي سيصوب في اتجاه صدر المتهمين، وهذا ما كان.
إعدامات 1973
حطمت سنة 1973 الرقم القياسي بخصوص الحكم بعقوبة الإعدام وتنفيذها.
يوم فاتح نوفمبر تم إعدام 15 شخصا رميا بالرصاص، وجميعهم أدينوا في محاكمة مراكش على إثر أحداث مولاي بوعزة، بتهمة تهديد أمن الدولة، وتم تنفيذ الإعدام يومين بعد عيد الأضحى.
تم إعدام عمر دهكون ورفاقه، وإضافة إلى هؤلاء نفذ حكم الإعدام يوم 27 غشت 1974 في حق 7 آخرين.
وفي هذه الفترة بالذات خططت الأجهزة الأمنية لاختطاف كل من حسين المانوزي والنقابي عبد الحق الرويسي ولم يظهر لهما أثر إلى حد الآن، وتعتبر حالتهما من حالات الإعدام خارج القانون رغم عدم الاعتراف بذلك من طرف القائمين على الأمور حتى الآن.
إعدام امقران والكويرة
يوم السبت 13 يناير 1973، أعدم 11 طيارا بشاطئ الشليحات هم أمقران، الكويرة، زياد، بوخالف، المهدي، بلقاسم، بينوا، بحراوي، كمون، العربي واليزيد، رميا بالرصاص.
بعد نهاية المحاكمة ظل أمقران والكويرة داخل السجن العسكري بالقنيطرة يقضيان نهارهما في الحديث والمطالعة ولعب كرة السلة في ساحة السجن.
آنذاك راجت إشاعة عن إمكانية استفادتهما من عطف الملك وعفوه، كما راجت أخبار مفادها أن المقربين من الملك نصحوه بتهدئة الأجواء لاسيما وأن البلاد عرفت محاولتين انقلابيتين متتاليتين خلال سنة (صيف 1971 – صيف 1972)، لكن ما حدث كذب هذه الإشاعة، إذ تم نقلهما من السجن العسكري إلى دار المقري (النقطة الثابتة رقم 3)، حيث تعرضا للاستنطاق بخصوص علاقة عمر الخطابي بالانقلاب ومورست عليهما جميع أنواع التعذيب، وفجر اليوم الموالي نفذ في حقهما ومن معهما حكم الإعدام.
وخلافا لما جرى به العمل أعدموا بعد الفجر، تحت دفء أشعة الشمس الصيفية، على شاطئ المحيط الأطلسي بالشليحات على الضفة الشمالية لمصب واد سبو.
وحسب شهود عيان فإنهم واجهوا الموت بشجاعة ورباطة جأش، وعندما قيدوا على العمود قرأوا ما تيسر من القرآن.
« إعدام » عمر بنجلون
تصفية عمر بنجلون وصفها الكثيرون بمثابة إعدام خارج القانون، خططت له الأجهزة الأمنية ونفذته أيادي غادرة يوم 18 دجنبر 1975، وكان منفذو الإعدام أناس عاديين شحنوا من أجل القيام بهذه الجريمة يوم 18 دجنبر 1975 على الساعة الثالثة والنصف زوالا أمام منزله.
نزل عمر من سيارته.. اقترب منه شخص، مد له عمر يده مصافحا.. لكن شخصا آخر انهال عليه من الخلف بقضيب حديدي ثقيل على رأسه.. ثم يباغته مصافحه بطعنة خنجر غادرة في اتجاه القلب.. سقط الشهيد عمر والدم ينزف من صدره.
أيدي ملطخة بدماء أبناء هذا الوطن عبأت وجهزت عاطلا وإسكافيا وخياطا للنيل من الشهيد عمر بنجلون، وتنفيذ حكم إعدامه أصدره القائمون على الأمور بدون محاكمة، رغم أنه سبق أن حوكم بالإعدام ولم ينفذ في حقه.. كان المنفذون مجرد أداة تنفيذ، وتأكد هذا الأمر بعد العثور على لائحة تضم عشرات الأسماء المرشحة لنفس المصير الذي لقيه عمر، أي « محكوم عليهم بالإعدام خارج القانون وفي الكواليس »، وضمت 70 إطارا سياسيا.
وخلال الحصص الأولى من التحقيق وردت أسماء جملة من الشخصيات الوازنة التي أثير ضلوعها في جريمة الاغتيال، إلا أن هذه المحاضر اختفت جميعا بفعل فاعل ودفعة واحدة من ملف المحكمة.
وكانت المحاكمة سريعة، ولم تعرف إلا ثلاث جلسات، على امتدادها قوبلت كل طلبات الدفاع المدني بالرفض من طرف هيئة المحكمة، الشيء الذي أدى به إلى إصدار بيان وضح فيه الخروقات التي لازمت المسطرة القانونية ثم انسحب من القاعة.
وكانت الخلاصة التي أجمع عليها الرأي العام ولازال، أن الشهيد عمر بنجلون اغتيل على يد من لم تتم محاكمتهم بعد، وبالتالي لازالت قضيتهم قائمة حتى إشعار آخر.
إعدام البهائيين
من المعدومين في بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني بعض المغاربة الذين اعتنقوا البهائية وحاولوا الترويج لها في المغرب، في فجر الستينيات بشمال المملكة.
بمناسبة اهتمام الصحافة المستقلة بإشكالية التنصير وحرية الاعتقاد، تطرقت بعض الجرائد الصادرة بالعربية والفرنسية إلى وجود مغاربة يعتنقون البهائية (البهائيون المغاربة).
كما أن التقرير الأمريكي السنوي أشار إلى وجود ما بين 400 و800 من المغاربة يعتنقون البهائية، من ضمنهم أطر بنكية ورجال تعليم ومهنيون تمركز أغلبهم بين مدينتي الرباط والدار البيضاء.
لكن هل ظاهرة البهائيين بالمغرب ظاهرة جديدة أم قديمة؟
بدءا يمكن القول إنها ظاهرة ليست بالجديدة بالمغرب، إذ سبق أن عرفتها بلادنا منذ السنة الأولى لاعتلاء الملك الراحل الحسن الثاني عرش البلاد خلفا لوالده الراحل الملك محمد الخامس في فجر الستينيات، وقد سبق لمدينة الناظور أن عرفت محاكمة مجموعة من البهائيين المغاربة حوكم بعضهم بالإعدام، إذن سمع المغاربة الحديث لأول مرة عن وجود بهائيين بين ظهرانيهم سنة 1962، وكان ذلك بالشمال، لاسيما بمدينة الناظور وضواحيها، آنذاك وردت البهائية من إيران.
في تلك السنة احتضنت مدينة الناظور محاكمة 13 شابا مغربيا من المدينة ومن الشمال وسوريا كان يشغل منصب مدير تعاونية الصناعة التقليدية بمدينة فاس، وقد اتهموا بإثارة القلاقل والمس بالنظام العام، وفي نهاية المطاف حكمت المحكمة على 3 منهم بالإعدام و5 بالمؤبد مع الأشغال الشاقة ومنهم من حوكم 15 سنة سجنا نافذا.
خلال المحاكمة نشر علال الفاسي، وزير الشؤون الإسلامية آنذاك، مقالا بجريدة « الاستقلال » ذهب فيه إلى القول أن البهائيين المغاربة ربطوا علاقة مع إسرائيل بهدف تقويض أسس الدولة المغربية. في حين تساءلت جريدة « المنار »، التي أسسها أحمد رضا كديرة وزير الداخلية آنذاك، عن المرتكزات القانونية لمتابعة البهائيين، باعتبار أنه لا وجود لنص قانوني يقر بعقوبة الإعدام بخصوص المس بالدين الإسلامي، كما أبرزت أن البند السادس من الدستور المغربي كان يقر آنذاك بحرية الاعتقاد، وبعد يومين من صدور مقال جريدة « المنار »، كان رد الملك الراحل الحسن الثاني خلال حديث صحفي أجراه يوم 12 دجنبر 1962، أقر فيه أن مضمون البند السادس من الدستور لا يسمح، بأي حال من الأحوال، التبشير بمذاهب وديانات مخالفة للإسلام، كما أنه لا يفيد بقبول البهائية التي تعتبر زندقة في نظر الإسلام.
« إعدام » الحريزي
من « الإعدامات » خارج القانون التي ظل يلفها الغموض إلى حد الآن، « إعدام » محمد الحريزي، أحد أبناء مدينة سيدي قاسم، تكفلت به الحركة الوطنية بعد فقدان والديه وأشرفت على تعليمه، وارتبط بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية وكان قريبا من المهدي بن بركة وأحد رفاق دربه.
تم اختطاف محمد الحريزي في فجر الستينيات، بعد مرور أقل من سنة على اعتلاء الملك الحسن الثاني عرش البلاد، واحتجز بإحدى الفيلات الكائنة بشارع مولاي إدريس بالعاصمة الإدارية، رفقة زوجته السويسرية « أيريكا » وطفلتهما الصغيرة.
وترجع أسباب « إعدام » الحريزي إلى سنة 1959، عندما أقدم أعضاء « الكاب 1 » على اختطاف الحريزي، رفيق بن بركة، إذ كان يبيت لفكرة خبيثة مفادها أن الحريزي هذا عليه أن يلعب دورا أساسيا فيما أصطلح عليه بالمؤامرة ضد ولي العهد، آنذاك كان الدليمي قد اقترح على أوفقير التكلف بإقناع الحريزي (بحكم أنهما ينحدران معا من مدينة سيدي قاسم) باتهام بن بركة بالتخطيط لهذه المؤامرة.
في البداية، اختطف الحريزي وأودع بثكنة مولاي إسماعيل بالرباط، وهناك مورست عليه جميع أنواع التعذيب والتنكيل لأنه رفض المساهمة في اللعبة الدنيئة لأوفقير والدليمي، وبعد عامين من الاختفاء العسكري أطلق سراح الحريزي، لاسيما وأن زوجته السويسرية أقامت ضجة كبيرة في الأوساط الديبلوماسية بالرباط، الشيء الذي فرض على سويسرا التدخل في النازلة.
للتخلص من الفضيحةـ فكر الجلادون في سناريو تهريب الحريزي رفقة زوجته وطفلتهما الصغيرة خارج المغرب، وفي شتاء 1960 اقتيد الحريزي رفقة زوجته وابنته إلى إحدى الفيلات بحي السويسي بالرباط، وقد تمكن من لقاء بعض أصدقائه هناك، وبعد أيام منحه الدليمي جوازات سفر مزورة قصد التمكن من مغادرة المغرب، بطنجة سمع له اتصال هاتفي ببعض أصدقائه بفرنسا لإخبارهم بأنه على أهبة مغادرة المغرب، آنذاك اعتقد الكثيرون أنه فعلا غادر البلاد بمعية عائلته الصغيرة، لكن واقع الأمر أنه تم اختطاف العائلة من جديد من طرف رجال الدليمي وأعيدت إلى الرباط، من بين هؤلاء المدعو التدلاوي والشتوكي (المشهور في قضية بن بركة)، وهناك بالرباط بإحدى الفيلات السرية تم « إعدام » الحريزي وزوجته وطفلتهما طيلة مدة ظلوا خلالها محتجزين، بعد أن اعتقد الكثيرون أنهم خارج المغرب.
إعدام عبد الرحيم إينوس
من الإعدامات الأولى المنفذة في الستينيات إعدام عبد الرحيم إينوس، الذي لم يكن سنه يتجاوز 14 ربيعا، عندما أطلق النار على الضابط لحسن الغول الذي صفى عددا من المقاومين.
صرح عبد الرحيم إينوس أمام هيئة المحكمة العسكرية في منتصف الستينيات أنه قضى على حياة مجرم اغتال الكثير من أبناء الشعب المغربي البررة، واعتبر ما قام به واجبا وطنيا لأنه تربى على رفض الظلم والاستغلال والخيانة في ظل الاستعمار الفرنسي، فكيف يقبله في عهد الاستقلال وهو صادر عن مغاربة ضد مغاربة؟
وكان حكم المحكمة العسكرية هو الإعدام رميا بالرصاص في حق عبد الرحيم إينوس ورفيقه في درب النضال والكفاح محمد باشوش.
« إعدام » بالموت البطيء
لما وقع انقلاب 16 غشت 1972، اعتقل رجال وقدموا للمحاكمة في نفس السنة وصدرت في حقهم أحكام خلال نوفمبر 1972، كانت محاكمة عسكرية بمقر المحكمة الابتدائية للقنيطرة في شهر رمضان، وكانت الأحكام قاسية جدا، 11 إعداما، وكان ضمن المحكومين شباب أدينوا على الرغم من أنهم لم يقوموا إلا بعملهم اليومي المعتاد تنفيذا للتعليمات والأوامر الواردة من رؤسائهم، وهؤلاء لم يفهموا قط لماذا قدموا للمحاكمة ولماذا هم رهن الاعتقال ولماذا تمت إدانتهم؟
نفذ الإعدام في حق المحكومين بالرصاص بشاطئ الشليحات بمهدية، واقتيد الباقون إلى جحيم تازمامارت لإعدامهم بطريقة أخرى لم يسبق أن عرفها المغرب، الإعدام بالموت البطيء الممنهج.
فتازمامارت فضاء يتكرر فيه فعل الموت إلى مالا نهاية، إنه فضاء مصصم بحيث يموت نزلاؤه ببطء جزءا جزءا وبعد معاناة طويلة، إنه « إعدام بالموت البطيء »، وفعلا لقد تم إعدام 30 شخصا بالموت البطيء في صمت رهيب.
والآن في جحيم تازمامارت مقبرة، لكنها ليست ككل المقابر، إذ ابتداءا من 1974 بدأت آلية « الإعدام بالموت البطيء » تفعل فعلها حتى أجهزت على 30 من ضيوف آكل البشر: تازمامارت، وكان 28 من الباقين ينتظرون نفس المصير لولا انفضاح أمر تازمامارت.
موت الدليمي إعدام غير مبشار
اعتبر الكثيرون أن موت الجنرال أحمد الدليمي بمثابة « إعدام » غير مباشر، لتفادي إمكانية حدوث ما حدث في صيفي 1971 و1972، لاسيما أن قوته وسطوته في صفوف الجيش أضحت بادية للعيان.
توفى الجنرال أحمد الدليمي في حادثة سير بمراكش، هذه هي الرواية الرسمية التي لم يصدقها الكثيرون منذ الوهلة الأولى، كما كان الأمر بالنسبة لمقتل الجنرال محمد أوفقير قبله.
فعلا لقي أحمد الدليمي حتفه في حادثة سير غريبة، لكن ما هي الأيادي الخفية التي كان وراء ذلك الحادث؟ هذا هو السؤال الذي شغل بال الكثيرين آنذاك؟
ففي 23 يناير 1983 بثت التلفزة المغربية بلاغا رسميا بنعي الجنرال أحمد الدليمي الذي وافته المنية على إثر حادثة سير مؤلمة، ذلك هو فحوى البلاغ.
لكن سرعان ما طفت إلى السطح جملة من القرائن تداولها المغاربة فيما بينهم في السر، تؤكد أن الحادثة كانت بفعل فاعل وخططت لها أيادي خفية بطريقة محكمة، لقد كانت في واقع الأمر « إعداما » مقنعا.
وحسب أكثر من شاهد عيان، تم استنفار قوات الأمن والقوات المساعدة والدرك الملكي ورجال المطافئ بعد وقوع الحادثة توا، لتنظيف المكان وطمس كل معالم الحادثة، ودامت هذه المناورة طوال الليل وجزءا من صباح يوم الغد، وهذا بحضور العامل مصطفى طارق شخصيا الذي تمت كل العمليات تحت إمرته، وبذلك لم يكن من الممكن القيام بالتحريات المعتادة كما يجري به العمل في مثل حوادث سير من هذا القبيل.
وفي ليلة يوم 25 يناير 1983 حضر الملك الراحل الحسن الثاني إلى فيلا الجنرال أحمد الدليمي بالرباط لتقديم العزاء لعائلته، وكانت هذه المرة الأولى التي يقوم بها الملك بمثل هذا العمل. وعلى عكس مآل عائلة الجنرال محمد أوفقير، رعى الملك أرملة الجنرال أحمد الدليمي وأبناءه ولم تحجز أملاكهم. وقد علق أحد المحللين بأن هذا الإجراء كان ضروريا لتأكيد أطروحة حادثة السير التي لم يصدقها الكثيرون حينها.
لحظة إعدام الفواخري ورفاقه
من الإعدامات الأولى التي ارتبطت بشخص الملك الراحل، إعدام مجموعة محمد بن حمو العياشي (الفواخري) والتي اتهمت بالتخطيط لاغتيال الملك الحسن الثاني، ولي العهد آنذاك، شهورا معدودة قبل اعتلائه عرش البلاد. وتوبع الفواخري بمعية 10 من رفاقه بتهم حيازة السلاح والإخلال بأمن الدولة والقتل العمد.
وجاءت الأحكام التي نطق بها أحمد الزغاري، رئيس المحكمة العسكرية، مقرة حكم الإعدام في حق الفواخري وعبد الله بن لحسن الزناكي والمولات إدريس والجابوني وعمر بناصر، والمؤبد في حق الآخرين. ونفذ الحكم سنة 1961 داخل السجن المركزي بالقنيطرة، وقد رفض الفواخري وضع العصابة على عينيه، وكان آخر ما نطق به الكلمة التي سبق أن قالها المقاوم أحمد الراشدي قبل إعدامه من طرف السلطات الاستعمارية، « اتركوني أرى لآخر مرة سماء وطني الذي ضحيت في سبيله »، في حين كان آخر ما نطق به رفيق الفواخري، عبد الله بن لحسن الزناكي « يحيا الوطن » وقال رفيقهما المولات إدريس « هذا ما يجازينا به الإقطاع« .
إعدام الكوميسير ثابت
إعدام الكوميسير ثابت كان آخر إعدام تم تنفيذه بالمغرب وكان ذلك في غضون شهر شتنبر 1993.
في الخامسة صباحا يوم 5 شتنبر 1993، لوحظت حركة غير عادية بحي الإعدام بالسجن المركزي بالقنيطرة، كان الكومسير ثابت منهمكا في أداء صلاة الصبح، آخر صلاة قبل مواجهة الموت، ذلك اليوم حضر جملة من الشخصيات لمعاينة عملية تنفيذ الإعدام، وكان من بين الحضور الجنرال حسني بنسليمان، أحمد الميداوي (الذي أصبح مديرا عاما للأمن الوطني بعد هذه المعاينة) ومحمد لديدي (ميدر إدارة السجون)، ومدير السجن المركزي، والقضاة ومحامي الدفاع.
أمام فرقة الرماة، رفض الكوميسير وضع العصابة السوداء على عينيه، وبعد آخر ارتجافة صرخ قائلا: « حوكمت من أجل ما يقوم به جميع الناس، لكن الأشخاص الذين أدينوا معي لا دخل لهم في هذه القضية… »
أعدم الكوميسير ثابت بتهمة هتك عرض عدة نساء مع استعمال العنف والوحشية والقيام بتصويرهن على أشرطة فيديو خاصة، لكن الشريط 32 ظل لغزا محيرا ولطالما نادى ثابت بمشاهدته، لكن القاضي رفض طلبه مرارا.
لم يكن الكوميسير ثابت يظن أن حكم الإعدام سينفذ، وظل يعتقد أنه سيتم إعادة النظر في الحكم الذي لن يتجاوز 5 سنوات على أبعد تقدير، إذ تلقى وعودا كثيرة بهذا الخصوص من شخصيات وازنة.
يوم إعدامه كانت عائلته تهيئ « القفة » لزيارته في السجن فسقط عليها خبر تنفيذ الإعدام كالصاعقة.
ومن آخر مطالبه أنه التمس من الملك إعادة التحقيق في القضية ليعرف أبناؤه الحقيقة كاملة، كما طلب أن تمنح ساعته ونظاراته لابنه عماد، لكن لم تتم الاستجابة لطلبه، وسلمت جثثه للعائلة في صندوق مغلق.
محكوم بالإعدام في الثمانينيات يصرح…
أتذكر يوم صدر حكم الإعدام في حقي.. بعد النطق بالحكم ساد صمت رهيب داخل قاعة المحكمة المكتظة بالجماهير، كسره شهيق إحدى النساء التي تعرفت على صوتها… إنها أمي العجوز.. كنت أود أن أصرخ.. حاولت جاهدا لكن صوتي لم يطاوعني رغم إصراري.. امتلكني شلل غريب لم أعهده سابقا.. كنت في كامل وعيي أرى وأسمع وأفهم كل ما يجري ويدور حولي، أحرك كل أعضائي وأتنفس بشكل عادي ولم تصبني أية غيبوبة.. ومع ذلك كنت مشلولا شللا غريبا.. بقيت متسمرا بمكاني كالصنم بين شرطيين، شعرت أن جسم أحدهما يهتز مرتجفا بمجرد ما نطق القاضي كلمة « الإعدام« ..
وما أن ختم هذا الأخير عبارة « حكمت المحكمة حضوريا » حتى التحق بنا شرطيان إضافيان، وقف أحدهما على يميني والآخر شمالي فأصبحوا أربعة.. قيدوني واقتادوني إلى سيارة الشرطة ببهو المحكمة خلافا للأيام السابقة، إذ كان ينتظر إنهاء الإجراءات بخصوص جميع المتهمين لإرجاعهم دفعة واحدة إلى السجن.. لكن خلال ذلك اليوم لم تنتظر السيارة أحدا وأعادتني إلى السجن بمفردي حال مغادرتي قاعة المحكمة.. داخل السيارة ظل رجال الأمن صامتين على غير عادتهم، لم ينبس أحدهم ببنت شفة.. أما أنا فلازلت حبيس ذلك الشلل الرهيب، غريبا عن هذا العالم الذي أعاين فيه دقائق ما يجري حولي، يرتادني شعور بعدم الانتماء إليه..
في ليلة صدور الحكم تركوني داخل نفس الزنزانة رفقة المعتقلين الذين عاشرتهم منذ التحاقي بالسجن الذي في أجوائه نسيت المحاكمة، غير أنني لم أعد ذلك الإنسان الذي كنته من قبل، أتكلم كثيرا ولا أنام إلا نادرا.. في ساحة السجن أنزوي في ركن، بعيدا عن باقي نزلاء الحي.. من قبل عندما كنت أخلد إلى الصمت كان بعض النزلاء يحاولون إخراجي منه ومحادثتي، لاسيما وأنني لم أكن وحدي متهما بـ « بطانة » كما ينعت السجناء جريمة القتل في « غوصهم ».. لكن بعد صدور الحكم لم يعد أحد يتجرأ على محادثتي قبل أن أبادره بالكلام.
بعد فترة لم أذكر مدتها نقلوني إلى السجن المركزي بمدينة القنيطرة، وهو السجن الذي يستضيف أغلب المحكومين بالإعدام بالمغرب.. بعد الإجراءات المعتادة قادنا الحراس إلى « حي الإعدام »، وبمجرد ولوجي ذلك الفضاء بدأ جسمي يرتعش رغما عني ولم أقو على التحكم في أي عضو منه، من أعلى رأسي حتى أخمص قدماي، إلى حد أنني صرت أتعثر في سيري فاضطر الحارسان لمساعدتي على استكمال مشواري نحو الزنزانة الفردية التي خصصتها لي إدارة السجن.. يكاد يكون المكان مظلما لولا ضوء خافت ينبعث من مصباح غشاه غبار السنين المتراكم..نور ضعيف لا يضيء إلا جزءا ضئيلا من الحي.. بعد استقراري بالزنزانة الانفرادية امتلكني إحساس لم يتملكني من قبل.. أحسست بالموت قريبا مني، يحوم حولي من كل الجوانب.. ازداد قربه وبدأت أشم رائحته.. رائحة لم يسبق أن شممت مثلها.. رأيت ضيوف « حي الموت » وسمعت حديثهم الذي يوحي بأنهم وضعوا حياتهم وراء ظهورهم من طول معايشتهم خوف حلول ساعة تنفيذ الإعدام في فجر أحد الأيام.. ليس في أحاديثهم وأقوالهم ما يوحي بارتباطهم بالحياة أو حتى بالغد القريب، لا يتكلمون إلا عن الماضي واللحظة، ما عدا ذلك لا قيمة له.. فنادرا جدا ما يستعملون أفعال المستقبل كأن لا غد لهم مهما كان قريبا.. وجوههم يائسة لا لون لها.. نظراتهم ذابلة وباردة لا حرارة حياة فيها.. عيون مثقلة من قلة النوم بالنهار والاستيقاظ بالليل.. استفسرت عن الأمر وقيل لي بالليل كانوا يأتون لأخذ المحكومين بالإعدام عندما تحين ساعتهم.. لهذا لم يعد أحد من نزلاء حي الموت يقوى على النوم ليلا حتى لا يفاجأ بموعد حلول الموت وهو نائم.. كل دقائق الحياة اليومية لنزلاء حي الإعدام تدور حول الموت.. وقد تكيف حراس هذا الحي وموظفو الإدارة مع هذا الواقع.. التزموا « ببروتوكول » خاص لا مثيل له في أحياء السجن الأخرى.. مثلا كلهم يرتدون أحذية رياضية ليلا خشية إحداث صوت عند تحركهم، لأن صوت الأقدام ليلا يفهم منه أنهم آتون لاقتياد أحد النزلاء إلى عمود الإعدام، كما أنهم يتجنبون فتح أو إقفال الأبواب الحديدية بقوة، لأن صوت المفاتيح في الأقفال ليلا، يوحي هو كذلك بنفس الشيء.. هكذا تكيف نزلاء حي الإعدام بالسجن المركزي مع الموت وصاحبوه في كل شبر من هذا الفضاء.. لا أمل لهم إلا واحد لا ثاني له، انتظار عفو ملكي يحول عقوبة الإعدام إلى المؤبد لاسترجاع حقهم في الحياة التي سلبوا منها بمجرد أن نطق القاضي الحكم في آخر جلسة.
حكم الإعدام بالمغرب
أصدرت المحاكم المغربية منذ حصول المغرب على استقلاله ما يناهز 200 حكما بالإعدام، وهي إعدامات ارتكزت على تفعيل القانون، وهذا الرقم لا يأخذ بعين الاعتبار حالات الإعدام المنفذة خارج القانون وعلى هامشه، دون علم القضاء ولا الشعب، باعتبارها نفذت داخل فضاءات لم يكن يعلم بها القضاء ولا المغاربة.
عموما لم يتم تنفيذ هذه العقوبة السالبة للحياة منذ 1982، باستثناء حالة واحدة في غشت 1993، ويتعلق الأمر هنا بإعدام الكومسير الحاج ثابت، ويبدو أن هناك ما يناهز 150 شخصا لازالوا قابعين في « ممرات وأحياء الإعدام » داخل بعض السجون المغربية.
حاليا، في سنة 2007 هناك 129 محكوما بالإعدام من ضمنهم 7 نساء حسب الإحصائيات الرسمية، في حين أن هناك، حسب جمعيات حقوقية، 150 حالة من بينها 9 نساء 110 منهم يوجدون بحي الإعدام (« حي ب ») في السجن المركزي بالقنيطرة؛ ومن المعلوم أن الملك الراحل الحسن الثاني أمر سنة 1994 بتحويل جميع حالات عقوبات الإعدام إلى السجن المؤبد ما عدا بعض الحالات التي بلغ عددها 13. وبالرغم من إيقاف تنفيذ هذه العقوبة، فإنها لازالت قائمة في القوانين الجاري بها العمل، وجاء قانون الإرهاب للمزيد من تقعيدها وتكريسها. إذ لاحظ الجميع أنه بعد أحداث 16 مايو 2003 الدامية بالدار البيضاء، عمدت العدالة المغربية إلى تفعيل هذه العقوبة أكثر من السابق، فلازال القانون الجنائي المغربي يقر بحكومة الإعدام بخصوص العديد من الأفعال الجرمية يفوق عددها 560، هذا بالإضافة للأفعال الجرمية المنصوص عليها في القانون الجنائي العسكري؛ وما تضمنه قانون الإرهاب يعتبر آخر عنقود المنظومة الجنائية المغربية، وبذلك يصبح عدد الأفعال الجرمية المعاقب عليها حاليا بالإعدام في المغرب يناهز 1180 فعلا جرما، وهذا يتناقض ويتنافى مع فحوى المعاهدات الدولية التي تنص على تقليص عدد الأفعال الجرمية المستوجبة لهذه العقوبة في أفق إلغائها نهائيا.
مناهضة عقوبة الإعدام بالمغرب
يبدو أن حركة مناهضة عقوبة الإعدام بالمغرب لازالت في بدايتها، إن الائتلاف المغربي من أجل مناهضتها لا يتكون حاليا إلا من فعاليات قليلة، بعض الجمعيات (6 أو 8) وبعض الهيئات الحقوقية وجمعية هيئات المحامين.
يظل هدف هذا الائتلاف الأساسي حاليا هو حمل الدولة المغربية للمصادقة على البروتوكول الاختياري الثاني، المتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام، باعتبارها عقوبة « لا إنسانية » وحذفها من كل القوانين الجاري بها العمل.
ومن المعلوم أن المغرب احتضن في يونيو 2006 الجمعية العامة الثانية للائتلاف العالمي من أجل مناهضة عقوبة الإعدام، كما سبق أن استضاف مناظرة بهذا الخصوص في غضون شهر أكتوبر سنة 2003، إلا أن الجدال حول إلغاء عقوبة الإعدام بالمغرب لازال لم ينضج بعد سياسيا بما فيه الكفاية، وهذا مع العلم أن مناظرة مكناس الخاصة بالسياسة الجنائية أقرت بشجاعة ضرورة السير نحو الإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام.
عموما لازال المجتمع المدني بالمغرب لم ينخرط بعد في هذا الجدال وفي التحرك من أجل مناهضة عقوبة الإعدام، فهو إلى حد الآن غير معني بهذه الحركة التي لازالت منحصرة على فئة داخل النخبة في جزء، لاسيما الفعاليات الحقوقية، فلازال البعض يرى أن هناك تداعيات عويصة، خصوصا ما يتعلق بارتباط هذه الإشكالية بمبدأ القصاص والحدود الإسلامي والمنصوص عليه في القرآن الكريم والمكرس انطلاقا من المنظور الإسلامي، هذا في وقت ترتكز فيه المنظومة القانونية المغربية على الفلسفة الوضعية والفقه الوضعي لكنها استثنت عمليا في جملة من جوانب مرجعيتها مبدأ الحدود والقصاص. ولعل هذا هو السبب الرئيس في تفضيل القائمين على الأمور عدم تفعيل الجدال والحوار المتعلقين بإلغاء عقوبة الإعدام والاكتفاء بالحفاظ عليها سارية المفعول في القانون المغربي لكن مع تعليق تنفيذها بحثا عن إرضاء الطرفين، المناديين بإلغائها والرافضين لذلك.
لكن ما هو الموقف الرسمي من إلغاء عقوبة الإعدام بالمغرب؟
إن الموقف الرسمي بهذا الخصوص لم يتضح بعد بشكل شفاف، هذا بالرغم من أن هناك جملة من الوزراء والمسؤولين الكبار يساندون مطلب الإلغاء، من ضمنهم وزير العدل الحالي الذي سبق له أن صرح بذلك أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، كما أصبحنا نلاحظ حضور رسميين وازنين في النقاشات وفي مختلف الأنشطة بهذا الخصوص. إلا أنه لحد الآن ليس هناك أي جهة رسمية تعارض بوضوح إلغاء هذه العقوبة.
أما فيما يتعلق بالبرلمان، فقد سبق لبعض النواب أن قدموا، في غضون سنة 2006، مشروع قانون يقضي بإلغاء عقوبة الإعدام بالمغرب لكنهم ووجهوا برفض متستر اتخذ شكلا من أشكال إهمال المشروع وعدم إيلائه أية أهمية، واكتفى آخرون بالتعليل قائلين إن هذه العقوبة واردة في القرآن الكريم لكونها ضرورية حفاظا على الأمن والاستقرار والسلم والنظام، ويبدو أن الإسلاميين هم الأكثر معارضة، لإلغاء عقوبة الإعدام بالمغرب الآن، ويعضضهم في هذا الموقف رموز سنوات الجمر والرصاص الذين مازالوا يحتلون مواقع نافذة في دوائر صناعة القرار، لاسيما أولئك الذين تأكد تورطهم في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وكل هؤلاء يعتمدون على حيتيات مرتبطة بالإسلام.
ويبدو أن موقف الملك محمد السادس، بخصوص إلغاء عقوبة الإعدام، يسير في اتجاه الإلغاء أكثر من المناهضة، ومن مؤشرات هذا الموقف، مباركته احتضان المغرب للجمع العام للائتلاف العالمي ضد عقوبة الإعدام، كما أنه أولى هذا الأمر أهمية خاصة. ومن المعلوم أن تنفيذ أحكام الإعدام لا يتم إلا بإذن مباشر من الملك، ولم يتم تنفيذ أي عقوبة من هذا القبيل منذ أن اعتلى الملك عرش البلاد. ألا تكفي هذه المؤشرات لاستشفاف موقف الملك محمد السادس بهذا الخصوص؟
خلاصة القول
يبدو أنه حتى ولو حاولنا جرد حصيلة الأشخاص المعدومين في العهد السابق، لن نفلح في ذلك باعتبار أن الإعدامات التي اقترفت ونفذت خارج القانون أو على هامشه مازالت تنتظر الكشف عنها، وبالتالي لازال مشروعا إلى حد الآن التساؤل عن هذه الحصيلة، علما أنه من باب المستحيل التعرف عليهم جميعا باعتبار سيادة الخوفقراطية آنذاك والتي كانت مكونا من مكونات المنظومة الاجتماعية
Soyez le premier à commenter